حاوره:منصف كريمي
في عالم يتغيّر بوتيرة متسارعة، لم تعد الحروب تُخاض بالسلاح وحده، بل أصبحت تُدار عبر الخطاب، والصورة، والرمز، وإعادة تشكيل الوعي الجمعي،فالصراعات المعاصرة، وفي مقدمتها الحرب الروسية الأوكرانية، تكشف عن تحوّل عميق في طبيعة النزاعات الدولية، حيث تتقاطع الأبعاد العسكرية مع رهانات حضارية وسيميائية تمسّ الهوية، والذاكرة، ومنظومات القيم.
وتكتسب مقاربة هذا الموضوع أهمية خاصة في ظلّ تداعياته العالمية التي لا تقتصر على الجغرافيا الأوروبية، بل تمتدّ إلى الاقتصاد، والسياسة، وإعادة رسم موازين القوة والمعنى على الصعيد الدولي.
ومن هذا المنطلق، أجرت”البيان“حوارا مع الدكتور محسن حمزة، الباحث في تاريخ العقليات، لتفكيك آليات هذه الحروب غير المرئية وقراءة انعكاساتها الفكرية والثقافية، مستندًا إلى تجربة معرفية وأكاديمية خاصة بحكم دراسته في أوكرانيا ومعايشته لتحوّلاتها الذهنية قبل الحرب وخلالها.
الحرب على المعنى/ حين تصبح الرموز سلاحًا:
حول مفهوم الحروب الحضارية والسيميائية، أوضح الدكتور محسن حمزة أن العالم المعاصر دخل مرحلة جديدة من الصراعات، لم تعد فيها المواجهة العسكرية هي الشكل الوحيد للحرب، بل أضحت المعركة الحقيقية تدور حول المعنى والتمثّلات الجماعية. وأفاد بأن الحرب الحضارية تستهدف منظومات القيم والذاكرة التاريخية للشعوب، في حين تعمل الحرب السيميائية على توظيف الرموز والصور والخطابات الإعلامية من أجل إعادة تشكيل وعي الأفراد وتوجيه مواقفهم.
الحرب الروسية الأوكرانية: صراع سرديات لا مجرد مواجهة عسكرية:
وعن سؤالنا لمحاورنا عن الحرب الروسية الأوكرانية، قال”إنها تمثل نموذجًا صارخًا لهذا النوع من الصراعات المركّبة، حيث تتداخل الجغرافيا السياسية مع صراع السرديات. وأشار إلى أن كل طرف يسعى إلى فرض روايته الخاصة على الرأي العام العالمي، مستعملًا خطابًا حضاريًا وأخلاقيًا يسبق أحيانًا الفعل العسكري نفسه، ما يجعل المعركة الإعلامية موازية للمعركة الميدانية”
أوكرانيا وصراع الهويات المركبة:
وبخصوص التجربة الأوكرانية، خاصة وأنه درس هناك لسنوات، أفادنا الدكتور حمزة قائلا”ان المجتمع الأوكراني عرف، حتى قبل اندلاع الحرب، توترًا هويّاتيًا واضحًا بين الإرث السوفياتي، والانتماء الأوروبي، والخصوصية القومية المحلية. وأضاف أن الحرب عمّقت هذا الصراع وأسهمت في إعادة تشكيل العقل الجمعي، حيث تحوّل الانتماء الثقافي من مسألة اختيارية إلى مسألة وجودية، وهو ما يفسر حدّة التعبئة الرمزية والخطابية داخل المجتمع الأوكراني”
تداعيات عالمية تتجاوز حدود أوروبا:
وعن تداعيات الحرب على العالم، صرّح محدثنا “إنها تجاوزت البعد العسكري لتشمل أزمات اقتصادية خانقة، خصوصًا في مجالي الطاقة والغذاء، فضلًا عن عودة مناخ الاستقطاب الدولي. واعتبر أن أخطر هذه التداعيات يتمثل في تكريس منطق الصدام الحضاري وتقسيم العالم إلى معسكرات رمزية متقابلة، الأمر الذي يهدد التعدد الثقافي ويغذّي النزعات الشعبوية والتطرف”
العالم العربي في قلب الحرب السيميائية:
وفي معرض حديثه عن موقع العالم العربي والإسلامي ضمن هذه التحولات، أفادنا الدكتور محسن حمزة أن المنطقة غالبًا ما تجد نفسها في موقع المتلقي لا الفاعل، حيث تستهلك الخطابات والسرديات الجاهزة دون إنتاج روايتها الخاصة. وأكد أن هذا الوضع يجعلها أكثر عرضة للحروب السيميائية، داعيًا إلى ضرورة بناء وعي تاريخي نقدي يمكّن من فهم الصراعات بدل الانجرار خلف تمثّلات الآخرين.
هل نحن أمام سبات للعقل العربي؟

واجابة عن سؤالنا له عن ما يُوصَف بسبات العقل العربي، قال الدكتور حمزة “إن هذا التوصيف لا ينبغي أن يُفهم بوصفه حكمًا جوهريًا، بل نتيجة مسار تاريخي طويل تراجعت فيه آليات النقد والاجتهاد”
وأضاف محدثنا أن العقل العربي عرف فترات ازدهار كبرى، غير أن غياب المشروع الحضاري، وهيمنة الاستبداد، وتراجع دور المعرفة، أسهمت في حالة الجمود الراهنة. وأكد أن المشكلة ليست في غياب العقول، بل في غياب الشروط المؤسسية المنتجة للعقل النقدي.
من العرب إلى غيرهم/تحوّل مركز النهضة في العالم الإسلامي:
وحول انتقال مركز الفعل الحضاري الإسلامي من العرب إلى شعوب أخرى، أفادنا الدكتور محسن حمزة أن التاريخ الإسلامي يُظهر أن النهضة لم تكن يومًا حكرًا على جماعة بعينها. وأوضح أن الأتراك والفرس لعبوا أدوارًا محورية في بناء الحضارة الإسلامية، فيما نجحت في العصر الحديث تجارب إسلامية في إندونيسيا وماليزيا في تحقيق توازن بين الهوية الدينية ومتطلبات الدولة الحديثة. واعتبر أن هذا التحوّل يعكس حيوية الإسلام وقدرته على التكيّف، لا تراجعه.
النهضة ليست مسألة عِرق بل مشروع حضاري:
وبيّن محدثنا في هذا الحوار أن النهضة لا ترتبط بالانتماء العرقي أو اللغوي، بل بمدى القدرة على تحويل القيم الدينية إلى مشاريع حضارية واقعية. وأضاف أن التجارب غير العربية تؤكد أن الإسلام يمكن أن يكون رافعة للتنمية والعقلانية السياسية متى وُضع ضمن رؤية مؤسسية واضحة، بعيدًا عن الشعارات الأيديولوجية.
دور الباحث وتحديات الوعي النقدي:
ولدى سؤالنا عن دور الباحث في تاريخ العقليات، أوضح الدكتور حمزة أن مهمته الأساسية تتمثل في تفكيك المسلّمات وكشف آليات تشكّل الأفكار والرموز. وأكد أن هذا الحقل المعرفي يساعد على فهم كيفية توظيف الذاكرة الجماعية في الصراعات المعاصرة، محذرًا من الانخداع بالروايات الجاهزة.
دراسة العقليات في زمن الذكاء الاصطناعي:
ولدى سؤالنا الدكتور محسن حمزة عن كيفية دراسة العقليات في عصر الذكاء الاصطناعي قال”ان التحدي اليوم مزدوج. من جهة، توفر أدوات الذكاء الاصطناعي إمكانيات هائلة لتحليل النصوص والخطابات والبيانات الثقافية الضخمة، ما يتيح دراسة التحولات الفكرية والسلوكية بسرعة ودقة غير مسبوقة”
ومن جهة أخرى، حذر محدثنا من أن الاعتماد الكلي على هذه الأدوات قد يؤدي إلى قراءة سطحية للعقل الجمعي إذا لم يُدمج التحليل البشري النقدي، الذي يفهم السياق الثقافي والتاريخي.
وأوضح أن الباحث في تاريخ العقليات يجب أن يوازن بين قوة التحليل الآلي وفهم السياقات الرمزية والاجتماعية العميقة، لضمان استنتاجات دقيقة ومستنيرة، قادرة على تفسير الواقع وليس مجرد تتبع البيانات.
معركة الوعي قبل معركة السلاح:
وفي ختام حديثه، شدد الدكتور محسن حمزة على أن العالم يعيش زمنًا تُدار فيه الحروب بالكلمة والصورة بقدر ما تُدار بالسلاح، مؤكدًا أن امتلاك وعي نقدي أصبح شرطًا أساسيًا للحفاظ على الاستقلال الفكري. وخلص إلى أن من لا يشارك في إنتاج المعنى، يجد نفسه، دون وعي، موضوعًا لحروب الآخرين.