البيان/بدر الدين الجبنياني

رغم ما يشهده الخطاب الرسمي من دعوات متكررة لإرساء مبدإ الحوكمة الرشيدة وإعلاء قيم الكفاءة والنزاهة في التعيينات داخل مفاصل الدولة، لا تزال بعض الإدارات العمومية، للأسف، تعاني من ظواهر بيروقراطية متجذّرة، يأتي على رأسها “التسلق على الأكتاف” واستعمال أساليب التودد و”التلحيس” ـ على حدّ تعبير أحد الإطارات السابقين ـ كآلية للارتقاء المهني، دون اعتبار للمؤهلات ولا الكفاءات الحقيقية.
في هذا السياق، تفيد مصادر موثوقة أن وزارة الصحة كانت منذ عشر سنوات تقريبا مسرحًا لصورة صارخة من صور هذا التسيّب، حيث برز أحد المسؤولين ـ والذي سبق له أن تقلّد مهامًا حساسة داخل الوزارة ـ كأنموذج لمن لا يحمل من صفات القيادة سوى العنوان الوظيفي، في ظل افتقاره للجدارة والنتائج، واستغلاله المفضوح لموقعه الإداري لخدمة مصالح شخصية وعائلية بحتة.
محسوبية مقنّعة واستغلال للنفوذ
المسؤول المذكور، وفق شهادات متقاطعة، لم يكن يومًا إضافة فعلية للوزارة، بل كان حضوره أشبه بالعبء الإداري، حيث اقتصر دوره على تعيين شقيقه وبعض أقاربه في مؤسسات صحية تابعة للوزارة، على غرار مستشفى شارل نيكول، في تجاوز صارخ لمبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص.
ولم تقف “مغامراته” عند هذا الحد، بل وُجّهت إليه اتهامات باستعمال الحيل والدسائس داخل المؤسسة الصحية التي تم إلحاقه بها لاحقًا، حيث سعى بطرق ملتوية إلى الإطاحة بالمسؤول الأول على تلك المؤسسة، محاولًا التأثير على العاملين واستمالة بعضهم بهدف التموقع على رأس المؤسسة.
إلا أن محاولاته باءت بالفشل، بعد أن تبيّن سوء نواياه وانعدام كفاءته، ما دفع بالمسؤول الأعلى إلى رفع تقرير ضده، انتهى بإبعاده من المؤسسة.

سجل من الإخفاقات… ومسؤولية قائمة

الأرشيف المهني لهذا المسؤول لا يخلو من النقاط السوداء، فقد سبق له أن تسبب في أزمة داخل مؤسسة صحية كبرى بتونس العاصمة، بعد خلاف عنيف نشب مع عائلة أحد المرضى، التي ألحقت أضرارا بإحدى أقسام المستشفى، حيث تصرف بمفرده دون استشارة والتنسيق مع المصالح التي تشرف على مثل هذه المشاكل مما استوجب تدخل قوات الأمن لتفادي كارثة حقيقية. الغريب أن المسؤول المذكور لم يفلح في إدارة الأزمة، وكانت الوزارة نفسها هي من تدخلت لإعادة الأمور إلى نصابها.
ورغم سجلّه المهني المثقل بالإخفاقات، يبدو أن هذا المسؤول لم يستوعب الدرس بعد، إذ يواصل تجاهل حقيقة فشله الذريع في إدارة أي مؤسسة أُوكلت إليه، ويرفض إلى اليوم الاعتراف بأخطائه الجسيمة. وبحسب ما توفر لنا من معلومات، لا يزال يتحرك في كواليس الوزارة، متوددًا إلى المسؤولين، باحثًا عن منفذ جديد نحو منصب إداري، غير عابئ بما خلّفه من نتائج كارثية في محطاته السابقة.
بل والأدهى، أنه لا يتردد في ترويج إشاعات بين العاملين، مدّعيًا بأن تعيينه على رأس إحدى المؤسسات الصحية بات وشيكًا، وأن الوزير وعده بذلك شخصيًا، في حين تؤكد مصادرنا أن ما يروّجه لا يمتّ للحقيقة بصلة، بل هو محاولة مكشوفة لتثبيت حضوره الإداري بشتى الطرق.
وتجدر الإشارة إلى أن الوزير ـ وفق ما بلغنا من مصادر موثوقة ـ لا يُبدي أي نية لإعادة تعيين هذا المسؤول في خطة مدير مؤسسة، حتى لا يُمنح من جديد الامتيازات والحوافز المخصصة لمن يشغل منصب المدير العام. فالوزير نفسه، بحسب ذات المصادر، لا يمنح ثقته إلا لمن يستحقها، ولا يسمح لنفسه بإعطاء فرصة لمسؤول غير كفء وغير جدير بتحمّل أعباء المسؤولية.
بين صمت الإدارة وتطلعات الإطارات
هذه الحادثة وغيرها أعادت طرح الأسئلة القديمة الجديدة: كيف يمكن لموظف يحمل كل هذا الإرث من الفشل أن يُمنح فرصًا جديدة؟ وأين تكمن مسؤولية الهياكل الرقابية في تقييم الأداء وضمان عدم تكرار مثل هذه التجاوزات؟
الكثير من العاملين داخل الوزارة يعلّقون آمالهم على وزير الصحة الحالي الذي يُعرف بتشدده في مثل هذه الملفات، ويؤكدون أنه على دراية تامة بملف هذا المسؤول، ما يفتح الباب أمام قرارات مرتقبة قد تشمل تجريده من خطته الوظيفية الحالية، وربما استبعاده نهائيًا من دوائر التعيين مستقبلاً.
في انتظار غربلة شاملة…
إن الظاهرة التي يمثلها هذا النموذج ليست معزولة، بل هي جزء من منظومة أوسع تحتاج إلى مراجعة جذرية، عبر تفعيل الرقابة، وتشجيع ثقافة الجدارة، ووقف النزيف الذي تسببه المحسوبية والتسلق على حساب المصلحة العامة. فالدولة الحديثة تُبنى بالكفاءات لا بالأقارب، وبالنتائج لا بالتقارير المصطنعة.
ليبقى الأمل قائما في امكانية الإصلاح على  أن تكون هذه المرحلة بداية لفرز حقيقي يعيد الاعتبار لمبدإ “الرجل المناسب في المكان المناسب”، ويُطهّر الإدارة من الطفيليات الإدارية التي شوهت صورة المرفق العمومي في عيون المواطن.