
أجرى الحوار : منصور المبروك
“أثر يقاوم وجوده” … ذلك هو عنوان معرض الفنان التشكيلي فوزي تليلي بدار الثقافة بمدينة نابل والذي تم افتتاحه منذ 18 أكتوبر 2025 ويتواصل حتى 1 نوفمبر المقبل… فوزي التليلي فنان خزاف وباحث في الفنون التشكيلية ونظرياتها، واستاذ متعاقد في اختصاص الفنون والحرف بالقصرين.. تقوم تجربته على مقاربة فلسفية ومادية للطين بوصفه جسدا حيا وذاكرة للأرض، يتأمل من خلاله علاقة الإنسان بالمادة وبالزمن وبأثر وجوده المتحوّل.
قدّم سنة 2014 معرضه الشخصي الأول بعنوان “أديم أطيان” الذي تناول فيه العلاقة التأملية بين الفنان ومادته الطينية في بعد طقوسي يزاوج بين الحسّ الجماليّ والتجربة الوجودية …
أما في معرضه الحالي “أثر يقاوم وجوده” (2025 –دار
الثقافة بنابل) فيواصل الفنان التشكيلي المبدع فوزي تليلي تعميق بحثه في جدلية الأثر والمحو… والهشاشة كقوة مقاومة عبر أعمال خزفية تتراوح بين الإنشائية المعمارية والعضوية، تبرز أثر الزمن في المادة وأثر الذاكرة في الصمت..
شارك في عدة معارض جماعية وطنية وجهوية وساهم في مشاريع فنية وبيداغوجية تعنى بتجديد التعبير الخزفي ضمن الفنون البصرية المعاصرة…
يستند في ممارسته إلى رؤية ترى في الطين أداة تأمل وكيانا ذا روح يختزن الأثر الإنساني في رحلته بين التكوين والإندثار.. كما شارك في عديد الملتقيات والندوات الوطنية
والدولية التي تعنى بالفن…وله العديد من المقالات المنشورة.. مع الفنان ااتشكيلي المبدع والمتميز فوزي تليلي كان هذا الحوار الثري والممتع …
ما الذي يميّز معرض ‘أثر يقاوم وجودة” بدار الثقافة بنابل عن المعارض السابقة؟
يمثل هذا المعرض في جوهره تحوّلا نوعيّا في مسارنا الفني والفكري. فبعد أن كان مشروع “أديم اطيان” رحلة في اكتشاف المادة الطينية بوصفها أصل الوجود حيث سعينا إلى إعادة وصل الجسد بمادته الأولى عبر مقاربة حسية وتأمليّة، يأتي معرض “أثر يقاوم وجوده” اليوم ليعمق هذا المسار وينقله من مجرد تماس مع الطين إلى تجربة فكرية حول معنى البقاء والاندثار، فالطين لم يعد مجرد وسيط
تعبيري بل أصبح كائنا ذا ذاكرة وجسد يحمل ندوب الزمن.. لم تعد التجربة متمركزة حول العلاقة الحسية بين الفنان والمادة فحسب بل تجاوزتها إلى التساؤل الوجودي عن مصير الأثر في عالم هش وسريع الزوال… وبالتالي فإنني لا اكتفي بصنع الخزف بل أصنع ذاكرته الخاصة من خلاله… ذاكرة تناوب فيها الهشاشة والمقاومة… الصمت والانبثاق… التراب والخلود …


تقنيا يتميز المعرض أيضا بانفتاحه على تجريب أوسع في سطح المادة… استعمال التشققات المقصودة… الانكسارات كعناصر جمالية.. وتوظيف التفاعل بين الملمس واللون كمساحة لولادة الأثر كما يعتمد على إخراج بصري متكامل يجعل من المقطع الخزفي أشبه بمحطات في مسار تأملي يعيد للزائر وعيه بجسديته ووجوده العابر… إنه معرض لا يحتفي بالمادة فقط بل يحتفي بما تبقى منها حين تتآكل الأشياء…. بمعنى أدق هو تجربة في البقاء رغم الزوال…
ما هي الفكرة الأساسية التي انطلقت منها في المعرض الحالي؟
يطرح هذا المعرض “أثر يقاوم وجوده” سؤالا فلسفيّا عميقا: كيف يمكن للأثر أن يقاوم زواله وللمادة أن تستبقي ذاكرتها رغم هشاشتها؟
ومن خلال الطين، بما يحمله من رمزية الخلق والأرض والعودة حاولنا أن نجعل من كل عمل خزفيّ علامة على الوجود الإنساني الذي يقاوم محوه عبر الأثر… لا عبر الديمومة… لذلك تنطلق الفكرة من تأمل في المفارقة الوجودية بين الفناء والبقاء… بين الهشاشة والمقاومة… بين الأثر والزوال…
كيف ترى العلاقة بين الوعي الجمالي والفكر الفلسفي في أعمالك الفنية؟
الوعي الجمالي في هذه التجربة متصل بعمق بالفكر الفلسفي، إذ يتحول العمل الخزفي إلى مسرح لتجليات الأسئلة الوجودية : كيف تنبثق الحياة من هشاشتها؟ كيف يمكن للأثر أن يكون مقاومة؟ كيف يتحول الفناء إلى وعد بالجمال؟ من هنا يصبح الوعي الجماليّ تجسيدا حسّيا لفكرة فلسفية: أنّ الجمال لا ينفصل عن الألم وأن المادة ليست سوى ذاكرة الوجود.




هل يمكن الحديث عن تقنية محددة أصبحا “علاقتك الشخصية”؟
التلاعب الواعي بدرجات الجفاف والحرارة لإحداث تشققات منضبطة ومتحكم فيها تخلق إحساسا بالزمن والمحو أيضا… تراكب طبقات الطين الأبيض والأحمر لتوليد مقارنة لونية تشبه طبقات الذاكرة أو الرسوبيات الزمنية…
كذلك فإن استخدام النفخ أو الفقاعات كإيماءة تجعل اللون يتفاعل مع المسام ليبدو وكانه يتنفس…
فنانون او مفكرون كان لهم أثر في تشكيل رؤيتك؟
الفنانة والأستاذة سارة بن عطية … وهي خزافة وقد درستني في السنوات الاولى من الجامعة… لقد كانت تجربتنا ثمرة تفاعل بين التكوين الأكاديمي والممارسة الذاتية… بين البحث النظري والإنجاز العلمي.. ومن أبرز
التأثيرات في مسيرتنا يبرز أثر الفنانة والخزافة المتميزة سارة بين عطية التي كانت لنا أستاذة وملهمة في الوقت ذاته.. لقد شكلت علاقتها بالطين نموذجا حيّا في كيفية تحويل المادة الخام إلى كيان حيّ ينبض بالذاكرة والوجدان… من خلالها تعملنا كيف يمكن للممارسة الخزفية ان تكون تأملا وجوديا أكثر منها إنجازا تقنيا… وكيف يمكن للتجريب أن يكون طريقا نحو اكتشاف الذات من خلال الأثر… إلى جانب ذلك استلهمنا من التجارب الغربية المعاصرة مثل Peter Voulkos وAnselm Kiefers ما وسع أفق رؤريتنا نحو مفهوم أكثر فلسفية للمادة والأثر.. ليمزج بين المحلي والكوني… بين الحرفي والمفاهيمي في بناء تجربة توازن بين هشاشة الطين وقوة حضوره …
ما الرسالة التي تود تبليغها من خلال هذا المعرض ؟
هذا المعرض ليس مجرد عرض لأعمال فنية بل هو مساحة تأمل في العلاقة بين الكائن والمادة… بين الأثر والزمن… وبين الذاكرة والتحوّل… نرغب من خلاله في أن نصغي إلى ما تقوله المادة حين تتحول… وأن نمنح للفراغ والصمت فرصة أن يتكلما بلسان الطين… والأثر، واللون والضوء…
كذلك، الرسالة التي نود تبليغها هي أن الفن يمكن أن يكون جسرا بين الذات والمادة… بين الذاكرة والحاضر… بين الجرح والمقاومة.. إنه تذكير بان الجمال ليس في الصورة النهائية بل في الأثر الذي يتركه الفعل الإبداعي…
هل تفكر في نقل هذا المعرض إلى فضاءات أخرى أو تطويره إلى مشروع جديد؟
الفن بالنسبة لي ليس حدثا يغلق بانتهاء العرض بل هو رحلة مفتوحة… فالعمل يتغير حين يتغيّر فضاؤه، الضوء… حركة
الزائر، كلّها عناصر تدخل في تكوين التجربة… والغاية أن يضل المشروع قادرا على التجدد وعلى طرح الأسئلة التي لم تطرح بعد..
أثناء الإنجاز.. هل تضع المتلقّي في ذهنك، أم تترك العمل “يخلق” جمهوره الخاص؟
أثناء الإنجاز لا أضع المتلقي بشكل مباشر في ذهني، لأن العمل في لحظة تشكله يكون أقرب إلى حوار داخلي بيني وبين المادة… بين الفكرة التي تولد واليد التي تبحث عن شكلها.. لكن في الوقت نفسه لا اتعامل مع العمل كعالم مغلق فأنا أدرك أن كل أثر فني يحمل في داخله رغبة في التواصل حتى وإن لم يكن موجها لأحد بعينه… المتلقي يأتي لاحقا كهدف… بل كضرورة جمالية تكتمل بها التجربة.
ومتى تشعر بأن العمل الفني الذي تنجزه قد اكتمل؟
في التجربة الفنية.. ليس الاكتمال لحظة إنتهاء… بل لحظة وعي بأن المادة قالت ما أرادت قوله.. وأن الصمت أصبح أبلغ من الإستمرار… لكن الفنان الحقيقي يعرف ان العمل لا يكتمل أبدا.. بل يظل مفتوحا…
وكيف يتراءى لك واقع الفن التشكيلي في بلادنا؟
يتراءى واقع الفن التشكيلي في تونس اليوم كمرآة مزدوجة تعكس أصالة متجذرة في الذاكرة البصرية المحلية.. وفي الآن ذاته تلمع بملامح حداثة تبحث عن معنى جديد للانتماء والإبداع… إنه واقع خصب، متحول، متناقض أحيانا… لكنه حيّ ويعبر عن بلد ما زال يرى في الفن وسيلة للفهم والمقاومة والحلم …













