جلال باباي

كنت أجازف بقلمي حين خيٌرت ان أتناول تجربتها التشكيلية ، نظرا لاقتناعي أن عالم الرسامة هيفاء الحاج صالح ، استثنائي ومتفرٌد بكل ما حوى وتضمٌن من تاويلات وتحوٌلات لافتة وجذابة لاستزيد من إمعان النظر في اللوحات التي حَوَت تجربتها الفنية :” المتاهة 1 -2 ” من دار الثقافة قصور الساف ومرورا بالمكتبة العمومية بمدينة الشابة ثم وصولا إلى محطتها الثالثة بمدينة أكودة في ضيافة الصالون الثقافي الشجرة وبالتحديد بفضاء دار الثقافة أكودة حتٌى ينتهي الأمر بقراءة لافتة لـ “المتاهة 3” عسى أن تذيب شيئا ما من حيرتي وتعرٌي ما خفي من رغبتي الجامحة لتلمٌس فحوى الرسوم ونوايا الفنانة التي أتقنت عبر تجلياتها التشكيلية وفسيفساء رسوماتها في دغدغة فرشاتها حتى تشفي غليل اختيارها لاقتناص الفكرة وابلاغها للملاحظ والمتامٌل في ثناياها من خلال شدٌه للكشف عنها وهي تتخفٌى تحت خطوطها الملتوية التي تشكٌلها المتاهة، وقد استحسنت كثيرا اختيارها لللونين الابيض والاسود كقيمتين ضوئيتين للتعبير عن ثنائية في جانب الاحاسيس والمفارقة بين بعدين لا يتشابهان لتختزل الرسامة المسافة بينهما وتخاتلنا بأسلوبها الفني المغاير ثم ترتجل متاهتها باقتدار فهي الفتنة والدهشة و لعبة الكرٌ والفرٌ التي اقامت نواميسها الفنانة ثم والاكثر من ذلك الرغبة في إزالة القلق عن المتيٌمين بالعزلة حينا واستدراج الفرح إلى المتقبٌل الوهن احيانا أخرى . مازلنا نترقٌب إحالتنا على بوٌابة رئيسية ثانية لهذه المتاهة لننطلق عبرها في صياغة ملحمة الرسامة الإبداعية قادم الجولات التي ابقت متاهتها مفتوحة على مختلف التاويلات .

لمٌا التقينا الفنانة هيفاء الحاج صالح في الأول افتراضيا كانت بداية مطافنا لرفع اللٌبس عن سرٌ التسمية وتعرية أسرار واغوار هذه المتاهة التي شدٌتنا لفقه تجاويفها صرٌحت لنا قائلة وبثقة في النفس : “في حقيقة الأمر أن بدايات وصولي إلى مفهوم “المتاهة” كان عبر مراحل، فاهتمامي في البداية كان معتمدا على “العين” بكل ما تحتويه من مفاهيم عن النظرة الأحادية و النظرة المتحررة و دور كل منها في فهم العالم، ثم انتقلت لاحقا إلى الاهتمام بالشكل الدائري الذي يذكرني بشكل بؤبؤ العين إلى أن وصلت إلى الشكل الكروي للأرض، ثم وصلت الى الشكل الخرائطي والعالم المسطح من جديد كرؤية نقدية عن العالم الذي يظهر فيه الشكل الخرائطي حدود وقيود من جهة للعالم، وفي نفس الوقت تواصل واتصال بين العالم والذي كان واضحا في الخط والخيط الراسم لشكل الخريطة. ربما كانت هذه الكلمة القادح لتجاربي اللاحقة في المتاهة، فبالرغم من أنها (الخريطة) كانت قريبة جدا من أعمالي السابقة إلا إنني لم اهتم بها كعنصر رئيسي بقدر رسمي للشكل التجريدي الواضح في الخط والخيط الواضحان في اعمالي التشكيلية المختلفة”..
ثمٌ تضيف في مجمل كلامها قائلة : “…وهذا ما دفعني للاهتمام بها في أعمالي ولما يظهره الشكل الخرائطي من رمزية واضحة للعالم. وربما أيضا لما وصلت إليه من مفاهيم تجعلني اخص بالتساؤل عن الضياع والولوج والخروج في العالم، والرحلة والسفر والتشابك والتشعب والامتداد والافتراضية… وقد حاولت من جهة أخرى أن أجد مفهوما أوسعا يشمل كل المفاهيم التي مررت بها، إلى أن وصلت الى المتاهة التي تعد الملمة لكل هذه المفاهيم، خاصة وأنّ الأعمال التشكيلية تجعل من القارئ يتوه داخل خطوطها”.







هكذا تستدرجنا خطوط الطول والعرض ذات السواد غالبا والتي تخترق بياض القماشة وكانها خريطة طريق ، توهمنا بالنفاذ إلى نهاية المسار ربٌما ينجلي في بعض الاحيان ما خفي جرح في لون الأحمر الداكن كانها ذاكرة صدئة او وجع متقادم يراكم فوق المسار ليقطع مع النبض العادي والروتيني للحياة . لقد استطاعت على مرٌ ارتحالنا معها في سفر المتاهة، ان تنفلت فرشاة الفنانة نحو منعطفات بشتى الأحاسيس و الرؤى عبر تخلصها من تعريجات وارتساماتها التجريدية بالالوان الباردة متمثلة في الأبيض والأسود إلى الإبحار على متن الألوان النارية الساخنة (الأصفر والأحمر والبرتقالي) والإتكاء على اقتحام جريء لعالم التشخيص وتدبرها في التعلق بتلك الفتاة ناعمة الملامح وحضورها الملكي بين الحين والآخر ليتراءى ئى لنا اشتغال الرسامة هيفاء الحاج صالح بعمق على تطوير ملحمتها التشكيلية ” المتاهة”، لتبقينا متاهتها على أهبة نترصد مقاربات أخرى في شأن تجربة هيفاء الحاج صالح وما جاور مسيرتها من دلالات وتقاطعات خطوطية تخاتلنا رويدا حتى نستمتع بصريا وعاطفيا مع محاملها الفنية الفاتنة التي تحلق خارج السرب كأبهى ما يكون لتنخرط باستحقاق في المشهد التشكيلي فارضة أسلوبها المميز.
جلال باباي
