يحتضن رواق المعارض بدار الثقافة أكودة من 13 إلى 20 أوت 2025 معرض الرسام كريم الورداني تحت عنوان “وجوه ودردشات”، في فضاء بصري ينسج خيوط الحوار بين الملامح والذاكرة، بين العين والريشة، بين ما دوّنه التاريخ وما يتشكل على القماش، حيث أنّ المشروع يمتد على أكثر من جغرافيا ويتفاعل مع قضايا محلية وعالمية، فتتحوّل فيه اللوحة إلى شهادة جمالية وسياسية ومشهد من مشاهد المقاومة الإنسانية.


ومن المحاور الكبرى في هذه الفسيفسائية تبرز فلسطين وتونس في مرآة واحدة إذ يتوزع المعرض على محورين متكاملين، يكرس فيه الأول لفلسطين، حيث تتجلّى وجوه أحمد النيرب، مؤمن النيرب، محمود عجور، هند رجب، حمزة نصار، وبسمة، في تشكيلات لونية تعكس مزيجًا من الصمود والإنكسار، إذ تتصدّر هذه المجموعة لوحة “جرح الأمّة النازف” التي يظهر فيها علم فلسطين مُعاد الصياغة بخطوط مشطّبة، وكأنّها ندوب تاريخية محفورة على جسد الأمة وللإشارة فإنّ التقنية هنا تتقاطع مع خطاب عالمي في الفن المعاصر حول فكرة تفكيك الرمز (Deconstruction of Symbols)، وهي مقاربة عرفت حضورًا لدى فنانين كبار مثل “أنسلم كيفر” و”بانكسي”، حيث يُعاد تشكيل الأيقونات البصرية بأسلوب يكشف هشاشتها وصلابتها في آن واحد. كما يستدعي المحور الثاني الذاكرة التونسية عبر وجوه ارتبطت بالمقاومة الوطنية كمحمد الدغباجي ومصباح الجربوع وحسين الكوكي، وخليفة بوسلامة… لتكتمل الصورة بوجوه من الحاضر الثقافي في مدينة أكودة مثل المسرحي صادق عمّار والشاعر جلال باباي، في إشارة إلى أنّ المقاومة تأخذ أشكالًا متعددة، منها ما يتجسد في الكلمة والمسرح والفعل الإبداعي، وهو ما يحيلنا بالإقرار أن هذه الرؤية تتناغم مع الخطاب الفني العالمي الذي يضع الثقافة ضمن أدوات النضال المدني، وهو ما برز في التجارب اللاتينية والأفريقية التي وثّقتها “بيناليات داكار وهافانا”. كما تجلّت لغة الألوان والخامات في هذا المعرض في جدل الزيت والأكريليك إذ يزاوج الورداني بين الألوان الزيتية والأكريليك على القماش، في اختيار تقني يخدم الرؤية الجمالية نستشعر فيه الزيت يمنح اللوحات عمقًا بصريًا وثراءً في التدرجات ويضفي على الملامح طابعًا دراميًا، بينما يتيح الأكريليك سرعة الجفاف وجرأة الخطوط، الأمر الذي يخلق توترًا إبداعيًا بين الحدة والليونة، وبين الإمتلاء والفراغ… هذا الجدل الثنائي يحاكي تفاعل الذاكرة مع التاريخ، حيث يتشابك البُعد الراسخ مع اللحظة العابرة…كما هو في بعض الأعمال، التي تتحرر الألوان فيها من حدود الشكل، باحثة عن امتداد يتجاوز الإطار المادي للّوحة، في تماه مع المدارس التعبيرية الألمانية الحديثة وفنون الشارع العالمية التي تعيد صياغة القواعد عبر كسرها…
لكنّ التشليط الذي يضعه الورداني على بعض اللوحات هنا يشتغل كلغة موازية أو كعلامة بصرية ورمزية، تشبه أثر الجرح على الجسد أو الخدش على الذاكرة. هذا الأسلوب الجامع بين إرث الفن العربي في استثمار الخطوط الحرة وتجارب عالمية تعاملت مع التشويه البصري كأداة مقاومة، مثل أعمال” جيني هولزر” و”باربرا كروغر” التي جعلت من التمزّق جزءًا من البنية البصرية للنص التشكيلي.






وفي الجانب الآخر يمكننا الحديث عن فلسفة الصورة في زمن الصراع الإعلامي من خلال معرض “وجوه ودردشات” الذي تجاوز حدود التشكيل الجمالي، إذ يمكن قراءته في سياق فلسفة الصورة في زمن تتسابق فيه العدسات والشاشات على إنتاج المعنى أين يعيد راسم هذه اللوحات للوجه قيمته الأولى كمرآة للروح، بعيدًا عن الإستهلاك الإعلامي السريع الذي يحوّل الملامح إلى عناوين عابرة، أو لنقل بأنّ الوجه هنا يتحوّل إلى وثيقة حيّة تستدعي المشاهد إلى التأمل في القصة التي يحملها، في الألم الذي تحجبه النظرة أو في الفرح الذي يطل من زوايا العين، و هذه المقاربة تلتقي مع إتّجاهات في الفن العالمي تسعى إلى إعادة الإعتبار للصورة البطيئة (Slow Image) في مواجهة فيض الصور السريعة التي يفرضها الواقع الرقمي.
فكيف راوح الورداني هنا بين المحلية والكونية في صور تتجاوز حدود المكان والزمان؟ ببساطة “وجوه ودردشات” يضعنا أمام تجربة تشكيلية تمتد من أرشيف المقاومة في فلسطين وتونس إلى لغة الفن المعاصر في عواصم العالم. حيث يتحوّل المعرض إلى مساحة مشتركة بين ذاكرة محلية وأفق كوني، في زمن تتقاطع فيه معارك الأرض مع معارك المعنى، مع فن يمثل حلقة وصل بين مكان صغير يطل على المتوسط وفضاء إنساني مفتوح على إحتمالات لا تنتهي.
أسامة الحاج محمد