كتب جمال فياض – زهرة الخليج

الآن وقد أصبح بالإمكان أن تحكي شهرزاد بعدما سكتت دهراً عن الكلام المباح، شجّعني أحد الزملاء الأصدقاء الذي أسررتُ له بما كنت أعرفه من مصدر موثوق ولم أبح به أبداً، على أن أبوح بسبب امتناع السيدة الكبيرة فيروز عن تلبية أي دعوة للغناء في مصر منذ سنوات طويلة.

فقد تلقيت ذات يوم دعوة عبر شركة كبيرة جداً في مصر لأوصلها إلى السيدة فيروز، بأنها مدعوّة لإحياء حفل جماهيري كبير، على أن ترسل الشركة الداعية شيكاً مصرفياً موقّعاً على بياض (حسب المتصل)، لتضع عليه السيدة الرقم الذي تراه مناسباً. وأن يكتب محاميها ومكتبها العقد الذي يريانه مناسباً بشروطهما، وستوقّع عليه الشركة دون أن تقرأه وتنفّذه بحذافيره. وأن تضع فيه السيدة ما تشاء من شروط مهما كانت صعبة أو مستحيلة. أي أنّ الداعي لم يترك للسيدة الكبيرة أي منفذ بسيط لترفض الدعوة.

ومع ذلك، رفضت فيروز حتى مناقشة الموضوع، واكتفت بالقول إنها ليست مستعدة للغناء في مصر حالياً. حتى هنا وقف الكلام، وصمتت شهرزاد، وانكفأت العروض والأحلام بحضور حفلة فيروزية على أرض مصر.

سألتُ وتحرّيتُ، وتابعت الموضوع بكل فضول. لماذا ترفض السيدة الكبيرة فيروز أن تغني في مصر؟ رغم أن العرض لم يترك مجالاً للرفض. أن تحدّد هي المكان والزمان ونوع الحفل. أن تختار من تريد ليعاين مكان الحفل الذي يختاره لها منظّمو حفلاتها. أن تضع المبلغ الذي تريده حتى لو كان ملايين الدولارات. أن تأتي بأي فرقة موسيقية من جميع أنحاء العالم، وبأجهزة الصوت والإضاءة التي تختارها من أي مكان. أن تستعين بأي مخرج أو مصمم إضاءة وصوت وشكل مسرح من أي دولة مهما بلغت التكلفة… كل الشروط مجابة بلا نقاش. وفيروز تجيب بحرفين بسيطين: “لا”.

لماذا؟… عرفت، واقتنعت، ولم أبح لأحد بما عرفت من المصدر الموثوق. وحده صديقي الذي أثق به، والذي شجعني على الكلام الآن، عرف معي وكان على قدر الأمانة.

السيدة فيروز لن تذهب إلى مصر لأنها تعرضت لكثير من الإهانات المعنوية في آخر زيارة قامت بها هناك. فهي لم تكن تريد أن تدخل نفسها في طقوس الخضوع التي كانت تمارسها السيدة المصرية الأولى في حينه على نجوم العالم وشخصياته الذين يزورون مصر. فلا هي تريد أن تزور رئيساً ولا زوجة رئيس، وقد عانت ما عانته من هذا الموضوع في أكثر من بلد. هي لا تحب أن تغني لرؤساء وحكّام، بل لشعوب وأمم.

وفي مصر، بدأ المنافقون الذين يحيطون بالقصر الرئاسي وسيدته الأولى يضغطون لتذهب وتقدّم ولاء الطاعة بزيارة للقصر. والأهم، والذي زادها استياءً، أنّ الكاتب الصحفي المصري مفيد فوزي انبهر بصوتها وحضورها وكتب رأيه حتى خلص إلى استنتاج أنه فيروزيّ الهوى أكثر مما هو كلثوميّ. وهنا بدأت حملة إعلامية مصرية ضد فيروز لا ذنب لها فيها.

قرأت فيروز ما كتبته أقلام المنافقين الذين أرادوا أن يلحسوا رضى “السلطانة”. ويبدو أن لهذه “السلطانة” يداً وسيفاً فيما تعرضت له “فيروزة لبنان” من شتائم وقدح وذمّ وتشهير. فاتخذت قرارها أن لا عودة إلى مصر. فلا هي مستعدة لسماع المنافقين مرة أخرى، ولا للتعرض لموقف جديد ترفض فيه زيارة “سلطانة مصر”، ولا لفتح الباب الذي جاءتها منه ريح عاصفة لا ناقة لها فيها ولا جمل.

فيروز، بكامل هيبتها وحضورها الراقي والمحترم، بتاريخها الكبير المرصّع بهالات النجوم وأضواء الكواكب، لن تعود إلى مصر لتسمعها “سلطانة مصر” المزيد من الرسائل الملغومة عبر صحافة التملّق. هي أتت مصر لتغني لمصر، ولتسمعها مصر وهي تنشد “مصر عادت شمسك الذهب”، ولتحييها مصر، ولتقبّل أرضها وسماءها. أتت لتدخل مصر آمنة من أي انتقاص لتاريخها المجيد، فوجدت نفسها في صراع مع القصر لأنها لم تذهب لتسأل الرضى من “السلطانة”. ووجدت نفسها في مقارنة مع صديقتها الكبيرة الراحلة أم كلثوم. ووجدت نفسها تواجه الصحافة بصغارها قبل كبارها.

فيروز التي عايشت عصر محمد حسنين هيكل، وعصر مصطفى وعلي أمين، وعصر سعيد فريحه، تواجه اليوم “عضاريط الصحافة” ليهينوا تاريخها دون سبب أو ذنب اقترفته، فقط لترضي تلك الأقلام البسيطة والمتملقة سخط “السلطانة”.

هنا حفرنا وهنا طمّينا. وأراها اليوم، سيدة الغناء العربي الحالم، ورفيقة صباحات التفاؤل والحب والتسامح والسلام، قد تغني في مصر فور عودة “أم الدنيا” إلى سلامها وأمنها وأمانها الذين انتزعهم الفاسدون، ويحاول شبابها اليوم بثورتهم المباركة أن يعيدوهم إليها. ويومها، ليس فيروز فقط، بل عشرات ومئات ممن ظلمهم زمن قد زال، سيعودون إلى مصر ليدخلوها إن شاء الله آمنين، ويغنّوا معاً: “مصر عادت شمسك الذهب…”