بنزرت، من الحبيب العربي

الدكتورة رفيعة جزيري قُرط، طبيبة مختصة في الطب النفسي.. سمعنا عنها الكثير لبعض عقود من الزمن.. وعن كفاءتها العالية في مهنتها حين كانت تعمل بالمستشفى الجهوي ببنزرت، المستشفى الجامعي حاليا..
الدكتورة رفيعه قُرْط هي من فئة الأطباء الناجحين إلى حد كبير بشهادة المرضى وأهاليهم وحتى بشهادة زملائها في المستشفى، أطباء وشبه أطباء وكذلك إداريون..
والجميع تقريبا في بنزرت ينصح كل من له طفل تغيّر سلوكه بنحو يدلّ على أنه قد أصيب بمرض نفسي لأي سبب ما، بأن يعرض مريضه على الدكتورة قُرط..
ضيفتنا التي نتحدّث عنها اليوم، عملت قرابة العقد ونصف العقد بالمستشفى المذكور التابع لوزارة الصحة، ثم استقالت من خطّتها هناك لتلتحق بالقطاع الخاص من خلال عيادتها الخاصة الواقعة بشارع بورقيبة ببنزرت، في بناية “ابن النّفيس”، ولها الآن في هذه العيادة 15 سنة والإقبال على عيادتها في تزايد مستمر..
يقال أن من بين أهم أسباب تواصل نجاح أي طبيب، مهما كان اختصاصه، هي مواكبته المستمرّة لكل جديد في عالم الطب عامة وفي مجال اختصاصه على الخصوص.. والدكتورة قُرْط هي من طينة الأطباء الذين يؤمنون بأن العلم بلا حد وبأن الطب مستجَد ومتطوّر مع تطوّر الإكتشافات فيه..
ومثلما سمعنا الكثير الطيب والجميل عن ضيفتنا “رفيعه”، سمعنا قبل أشهر قليلة عن مركز مختص في تأهيل بعض المرضى المصابين بعاهات تعيقهم عن القيام بالسلوك اليومي السليم.. قيل لنا أنه الوحيد في الجمهورية في اختصاصه النفسي العصبي.. فاعتقدنا أنه من إنجاز وزارة الصحة العمومية، تماما كما أنجزت من قبل مراكز متخصصة في معالجة الإدمان بشتى أشكاله في مناطق اخرى..
لكن المفاجأة أننا اكتشفنا ان هذا المركز هو من إنجاز الدكتورة رفيعة جزيري قُرْط وهو عن فكرة لها بعد أن عاينت بنفسها في ندوات ومنتديات طبية وعلمية عالمية مراكز شبيهة في بلجيكا وفرنسا وسويسرا وفي غيرها من البلاد الغربية المتقدّمة..
المركز، حصلت الدكتورة بشأنه، على موافقة وزارات التكوين المهني والتشغيل والشباب والرياضة والشؤون الإجتماعية.. كما جمعت حولها أطباء في الأمراض النفسية، فنيين في مجالات صحية عدة ذات العلاقة بحركة الفرد وبتفكيره وترجمة ما يحلم به إلى أفعال تكون سليمة..
المركز أسّسته منذ سنة تقريبا ودائرة نشاطه في اتساع من فصل لآخر..
المركز يقع في منطقة واد المرج، بشارع محمد الصالح البراطلي، فوق بناية مقهى الجاز بالتحديد..
وحتى نعرف أكثر ما يمكن حول هذا المركز الوحيد في اختصاصه بالجمهورية التونسية، طلبنا موعدا من الدكتورة قُرْط فكانت في استقبالنا بالمركز الأنيق..
وكأول ما يجب أن نعرف عن صاحبة المشروع، سألناها من تكون ؟..
انا رفيعه جزيري قُرط، تونسية، طبيبة مختصة في الأمراض النفسية ولي عيادة خاصة بشارع بورقيبة ببنزرت، عملت أكثر من 14 سنة مع وزارة الصحة حيث اشتغلت بعديد المناطق في ولاية بنزرت وقد كنت منسّقة جهوية للبرنامج الوطني للصحة النفسية والعقلية التابع لوزارة الصحة..
الناحية العائلية، متزوجة ولي ثلاثة أبناء من بينهم طبيبة مختصة في مجالي ايضا..
فكرة إنشائي هذا المركز التأهيلي كانت حلما يراودني منذ سنوات بغاية أن استطيع توفير كل ممهدات نجاح اي مريض في استعادة توازنه السلوكي العام ليعود في اقصر الآجال لحياته الطبيعية..
لهذا، أنا سعيت بالشراكة مع ابنتي الطبيبة، النفسية هي الأخرى، لنؤسس معا هذا المركز بالنحو المطلوب في المجالين العلمي والطبي.. مركزنا هو للتأهيل النفسي والاجتماعي ويهُم بالأساس المصابين ببعض الأمراض المزمنة ذات العلاقة بالجانب النفسي مثل انفصام الشخصية واضطرابات المزاج المزمنة كالإكتئاب الحاد وقلة الثقة بالنفس وما إلى ذلك… وكذلك حالات الإصابة بالإضطراب الثنائي القطبي..

وكم تدوم فترة التأهيل وإعادة التأهيل ؟..
ليس من الممكن الحديث عن مدة بعينها في مثل التأهيل الذي نقوم به لأن مدى المرض لدى من يقصدون مركزنا بعد حصولهم على رسالة توجيه من طبيبهم المباشر يختلف من حالة لأخرى..
فنحن، حالما يأتينا المريض مرفوقا برسالة من طبيبه، نقوم بتحليل نفسي لنقف على مدى قدراته الذهنية والإجتماعية، عندها تتضح لنا حالته بالتحديد ونعرف اي برنامج علاجي خاص به نباشره معه..
والبرنامج يطول ويقصر حسب تطور الحالة، على أن معدل تواصل مباشرتنا لكل مريض عامة لا يتعدّى الستة أشهر في مرحلة اولية..
وفي طريقة عملنا، نقوم بتقييم اولي عندما يأتينا المريض.. ثم نقوم بتقييم ختامي عند نهاية الفترة المبرمجة لنقف بعد ذلك على مدى تعافيه واستعادته القدرة على الإستقلال بنفسه في عديد الجوانب السلوكية في حياته..
وهل تُعتَبر الظروف الصعبة والتجارب الفاشلة في الحياة والصدمات بعض اسباب الإصابة بالمرض النفسي للفرد عادة ؟..
قطعا، كل شيء في الحياة يؤثر فينا.. ونحن والمستوى الإجتماعي والبيئة التي نتربّى فيها.. لذلك نجد في محيطنا أناسا اقوياء الشخصية وقادرين على التحمل وعلى التحمل أكثر من غيرهم.. فمستوى المكانة الإجتماعية وتبعاتها المادية قد تكون كلها سببا في تأثر الفرد بها سلبيا..
الفشل في الإمتحانات ايضا.. والفشل في الحياة العاطفية كذلك.. والتأثر بكل هذا هو بدرجات.. منها التي لا تدوم طويلا، ومنها التي تكاد تعاشر صاحبها.. وهنا يأتي دورنا في إعادة تأهيل كل مريض كي يستعيد استقلاليته بنفسه في التفكير وفي تقدير ما يصلح به وأيضا في إنجاز ما يحلم به وفق مقدّراته..
– وماذا يمكن أن نعرف عن الإضطراب الثنائي القطبي الذي يقال ان عديد العظماء في التاريخ قد أصيبوا به ؟
الكثير من العظماء مصابون بالاضطراب الثنائي القطبي لأنهم مصابون بجنون العظمة بداخلهم.. فهؤلاء لا يعتبرون إلا أنفسهم في تقديرهم الشخصي.. ولا يعتقدون أن هناك من هو قادر على مخالفتهم الفكر او الرأي، وكل هذا يجعلهم يعانون من نوبات تظهر عليهم من حين لآخر لا تستغرق وقتا طويلا لكنها تجعلهم في حالة عصبية كبرى..
علاجها اولا وأخيرا بتناول الأدوية واتباع نصائح الطبيب المختص..
هذا قطعا يعود لجسامة المسؤولية التي يتحملونها.. فماذا عن هذه الجسامة لدى ابنائنا، أطفال هذا العصر المرتكز على كل شيء مادي وما مدى تأثيرها عليهم ؟..
المسؤولية لدى ابنائنا الصغار اليوم أصبحت جسيمة حقا لأنهم صاروا يشعرون بها من خلال حرص أبائهم على الإحاطة المكثفة بهم وعلى تركيزهم على الدراسة اولا واخيرا..
فالتلميذ الطفل الذي يرى نفسه في كل يوم من البيت للروضة وللمدرسة والدروس الخصوصية ثم للمراجعة بالبيت من جديد، دون أن يجد الوقت ولو القليل ليروّح عن نفسه، أضف إلى كل ذلك، الإمتحانات وضرورة أن يكون فيها في مستوى ما يأمله ابواه، كل هذا يجعله يعيش في ضغط نفساني متواصل والوالدان العاديان لا يدركان مدى تأثير كل ذلك عليه..
ولكل هذا، نعتقد انك وشريكتك ابنتك قد فكّرتما في استقطاب الأطفال كما أوليائهم في مركزكما هذا على مدار السنة ؟..
وهو كذلك.. فإلى جانب عنايتنا بالمرضى الذين يفدون علينا مبعوثين من اطبائهم المباشرين والذين نعالجهم بغاية استعادة استقلالهم بأنفسهم كما ذكرنا، نضبط أيضا برنامج نشاط للتلاميذ طيلة السنة الدراسية لنرافقهم بنشاطات في نواد مختلفة يشرف عليها مختصون في مجالاتهم بما يجعلهم ذوي قابلية لكل ما يتعلمونه في المدرسة وقادرين على التعامل مع مختلف النشاطات بما يعني أننا نعمل على تكوين شخصيتهم حتى يكونوا في مستوى كل مسؤولية يحمّلها إياهم اولياؤهم أو المجتمع.. فنحن مثلا عندنا ناد للمسرح، وآخر للموسيقى وثالث للرسم ورابع للتعبير إلى آخره..
وكل ناد ينشط برقابة مختص في مجاله..
– وهل هي نواديكم مشترَكة، أي يختلط فيها المريض بالسليم والكبير بالصغير ؟..
ابدا.. للمرضى برامج خصوصية لتأهيلهم وإعادة تأهيلهم..
ولمن هم “لاباس والحمد لله”، برامج تنشيطية مختلفة ومتنوعة وهم موزعون حسب فِئتهم العمُرية، من ذلك الأطفال بين 5 و15 عام لهم نواديهم وحدهم.. ومن هم في سن الشباب فما فوق لهم نوادٍ أخرى..

وماذا عن الأولياء ؟..
للاولياء نواديهم الخاصة التي يتعلمون فيها أيضا بعض الحِرف والشواغل.. كما لنا بعض النشاطات في بعض نوادينا خاصة بالنساء وحدهن..
ها نحن على ابواب العطلة الصيفية المُطوّلة، فهل من برنامج تنشيطي للأطفال وأوليائهم ؟
برنامجنا في الصائفة تنشيطي وترفيهي في آن واحد.. فنحن إلى جانب نشاط الأندية، لنا الخرجات الاسبوعية الإستطلاعية والإستكشافية لبعض الأماكن والمواقع الهامة، كما نقوم بالرحلات التي يشارك فيها الأولياء أبناءهم..
رحلات نطلعهم خلالها على مواقع لها تاريخ ومتاحف، تماما كما نحملهم لأماكن أخرى يقضون فيها وقتا ممتعا بين المرح المفيد لذاكرتهم..
فلا ننسى أن الطفل لا تنمو مداركه بالنحو الذي نحلم به إلا إذا كان الطفل قد شبع لعبا إيجابيا او “مفيدا”..
وما هي صيغ الترسيم في نواديكم بالنسبة للمرضى وللأطفال العاديين ؟
بالنسبة للمرضى، يخضعون لبرنامج علاجي فيه ما فيه من فحوصات وتحاليل وعلاجات وما إلى ذلك.. وبالنسبة للعاديين، بإمكان اي ولي ان يرسّم طفله في نادٍ واحد أو في نواد عديدة يمر بها حسب الجدول المعلوم..
كما بإمكان الولي أن يأتي بطفله لمركزنا في هذه الصائفة من الثامنة صباحا حتى الثانية بعد الظهر..
وبطبيعة الحال، لابد من المساهمة الشهرية في مصاريف المركز من حيث حرصنا على سلامة كل من هو “تابع” لنا ومن حيث تقديم المادة التنشيطية والعلمية المبرمجة..
وحتى نلتقي ؟..
الطفل شديد التأثر بما يراه ويلاحظه.. فلنحاول الظهور أمامه بالنحو الذي يجعل منه إنسانا بشخصية متزنة عند الكِبر..
فلنعلمه ما يفيده وإنه لمن الأفضل أن نجعله يُغرَم بنشاط ما او بأي شيء شبيهه.. فبحب ذلك الشيء ينجح فيه وينجح به.. وما على الكبار والاولياء بالأساس إلا التأطير والمحاذاة..
أما الذين نلاحظ عنهم بعض الإضطراب في التصرف والسلوك، فالأمر يتطلب عرضهم على الطبيب منذ البداية حتى لا يتفاقم الأمر فنندم وربما عندها لا ينفعنا الندم.
الحبيب العربي